5 يوليو 2011

أحمد .. قصتي الأخيرة -2-

الفصل الثالث ..



كالمثقل الغائب في عوالمه الداخلية عبر أزقة الحي،ركل حجراً كان في طريقه وراح يسحب أنفاسه ببطء ومن غير رغبة.


لقد تطورت الأمور بسرعة وها هو يجد نفسه خارج البيت، لقد استسلم وترك الساحة لتلك المرأة، تنهد محزوناً وداخلته رغبة في العودة للمقبرة، وتخيل ما حل بوالده وجدته، لا بد أنهما يبحثان عنه الآن، تنهد ضجراً واستمر يمشي على غير هدى.

انصرم من الليل جزء لا بأس به وبدأت المحال تقفل أبوابها والمارة يختفون في بيوتهم، تطلع إلى ساعته فوجدها تدنو من العاشرة ليلاً، لقد سار ما يقارب الثلث ساعة لذا فإن رجليه تؤلمانه ولا يكاد يستطيع وقوفاً، تطلع من حوله يبحث عن مكان يصلح للجلوس فوجد عند منعطف الزقاق محلاً صغيراً كان على يساره درج من الخشب يمتد للطابق الثاني ودون تفكير طويل اختار إحدى العتبات وألقى برأسه على حافة الدرج الخشبية وضم إليه ذراعية، كان جائعاً ومرهقاً وقبل كل شيء حزيناً مضطرب الخواطر.


الصباح جاء بشمس أكفها ساخنة، تبعث الحياة بحرارة عالية وتلقي بنورها الأبيض على إسفلت الزقاق المتعرج.


تمايلت الأخيلة في ذهنه واختلط الأمر على حواسه وبدا أنه واقع بين اليقظة والنوم، حرك جفنيه ببطء و استغرقت عيناه بعض الوقت كي تعتادا ذلك الضوء الباهر، وحين صار كل شيء جلياً طالعه وجه غريب، وجه لم تنطبق عليه أي صورة في ذاكرته، خرج صوته بما يشبه الأنين، وراح يحرك جسده علامة على الألم.


لم يكن قد استعاد وعيه الكامل بعد حين سأله ذلك الشخص:"هل أنت بخير؟ "


رفّت عيناه بضع رفات وبهمهمة قال:" من أنت؟ "


-" أنا من يجب أن يسأل هذا السؤال "


رانت على وجهه نظرة جاهلة، فأردف الآخر قائلاً" لم تنام في الشارع؟ "


تساءل مستغرباً:" الشارع؟! "


-" أجل " وأشار بيده إلى المكان من حوله وقال:" ألا ترى أنك في الشارع؟!"


رفع يده وفرك جفنيه مستجدياً المزيد من الوعي وأدار عينيه في معالم الزقاق من حوله و بعد جهد قليل استطاع أن يستعيد شيء من أحادث البارحة، فأجفل منزعجاً.


انتزعه صوت ذلك الشخص وهو يسأل:" هل أنت تائه "


-" كلا "


-" إذا لم تنام هنا؟ أليس لك بيت؟ "


أجاب دون رغبة في الخوض بذلك الحديث:" لم تسأل؟ "


-" لأنك تنام في مكان يخصني "


ثم ربت على كتفه لينهي الأمر وقال:" انهض وعد إلى بيتك، لا يصح أن ينام المرء في الشارع "


تركه وهبط باقي الدرجات بينما ظل يلاحقه بعينيه ورآه ينحني ليرفع غطاء المحل، تطلع من حوله فوجد الشمس مشرقة بل يكاد نورها يذهب ببصره، تذكر أنه لم يؤد صلاة الصبح، نهض بخطوات ثقيلة وعند باب المحل وقف ينظر لذلك الصبي، بدا أكبر منه ببضع سنين كان منحنياً على أحد الكراتين يلتقط منها بعض العلب، أجال عينيه على الرفوف المصفوفة في المكان وأدرك أنه محل لبيع المواد الغذائية، تنحنح ليزيل آثار النوم عن صوته وقال:" من فضلك هل يوجد مسجد في الجوار؟ "


التفت الصبي ناحيته ورفع ظهره لينتصب واقفاً ثم دنا منه قائلاً:" أقرب مسجد من هنا قيد الإنشاء، أتريد الصلاة؟ "


-" أجل "


عاد إليه فضوله فتساءل:" أخبرني ما قصتك؟ "


راوغ قائلاً:" أي قصة؟ "


-" هذه الحال التي أنت فيها؟ "


تنهد منزعجاً:" دع عنك حالي وأخبرني أين يمكن أن أصلي"


تنهد الآخر بدوره:" قلت لك لا يوجد مسجد قريب "


لكنه استدرك قائلاً:" يمكنك أن تصلي في غرفتي فوق "


رفع أحمد رأسه وقال:" يعني أن تسكن هنا ؟ "


-" أجل "


دفعه بلطف خارجاً وأنزل غطاء المحل وهو يقول:" تعال "

 
كان باب الغرفة مصنوعاً من الخشب، استخرج الصبي مفتاحاً من جيب بنطاله وأدار القفل ثم دفع الباب للداخل، دخل احمد خلفه وفور أن وقعت عيناه على معالم الغرفة انتابه شعور بالغرابة كان المكان أشبه بالشقة، بيد أن جميع الغرف قد جمعت في غرفة واحدة، فعلى يسار الباب كان هنالك دولاب يرتفع إلى منتصف الجدار و قبالة الباب يقع مكتب صغير بينما يوجد على يمينه باب أدرك بديهياً أنه حمام وبجانبه تصطف أشياء تشكل في مجموعها مطبخاً مفتوحاً.


جذبه الصبي من يده قائلاً:" أين شردت؟ "


-" لا إلى مكان فقط كنت أنظر إلى أشياء غرفتك، أتسكن وحيداً؟ "


-" لست الفضولي الوحيد هنا إذا، هيا ادخل إلى الحمام وتوضأ سأجهز لك سجادة الصلاة "


وبينما دخل أحمد إلى الحمام، جذب الصبي الكرسي الوحيد في الغرفة وجلس ينتظر خروجه بعد أن هيئ له لوازم الصلاة، كان يتحرق فضولاً لمعرفة قصته وهذا ما دفعه لاستضافته في غرفته.

 
وفي اللحظة التي أتم فيها أحمد صلاته داخلته الكثير من الأحاسيس، فحتى اللحظة لا يكاد يصدق أنه هرب من البيت فعلاً ولا يدري كيف وصل به الأمر إلى هنا..


ومرة أخرى انتزعه صوت ذلك الشاب من أفكاره وهو يقول:" غفر الله لك "


استدار له متبسماً:" ولك أيضاً "


-" صحيح لم تقل لي ما اسمك .."


-" أحمد وأنت؟ "


-" وأنا محمد "


أردف يقول وهو يتناول منه سجادة الصلاة:" حسنٌ هل ستذهب الآن؟ "


-" هل تنتظر ذهابي؟ "


تبسم ليبدد ظنه وقال:" كلا، إنما أريد أن أعرف ما هي قصتك "


زفر مجيباً:" ألن تكف عن مطاردتي بأسئلتك؟ "


هز كتفه قائلاً:" لو كنت مكاني لفعلت ذات الشيء "


صمت أحمد فأردف ذلك الشاب:" لا بأس لن أسألك "


سأل أحمد بتردد:" حسنٌ ولكن هل تسمح لي بالمكوث معك؟ "


تبسم ضاحكاً وقال:" لا مشكلة فهذا سيمنحني الفرصة لأعرف ما أريد "


-" يا إلهي..! "


ربت على كتفه وقال:" لا بأس كنت أمزح دعنا ننزل علي أن أفتح المحل فقد تأخرت.
تبعه بخطوات متعبة، فتح محمد باب المخزن و استخرج كرسياً من الخشب، مسح عنه الغبار وطلب إليه الجلوس ثم استدار عائداً إلى شغله.


شيء من الدوار بدأ يتسلل إليه، إنها آثار الجوع، رفع كفه وراح يحسب بأصابعه عدد الساعات التي أمضاها دون طعام، فرآها قد تجاوزت العشر ساعات.


أدخل يده في جيب بنطاله وسرعان ما سحبها خائباً فجيبه خال من أي قرش، بنظرة ملآ بالحسرة مرر عينيه على أصناف الأطعمة المعروضة حوله وتنهد مطرقاً.


ازداد جوعه حين توقفت أمام المحل حافلة عرف من شكلها أنها محملة بأنواع الخبز، وربما لوهلة تمنى لو أنه تناول العشاء ليلة الأمس.

 
خاطبه محمد وهو يقف أمامه:" أنت شارد دائماً، ترى فيما تفكر؟ "


تطلع إليه صامتاً إذ لم تكن لديه طاقة على الحديث، فتركه الآخر لبرهة ثم عاد حاملاً في يده قطعة خبز مدهونة بالجبن مدها إليه وقال:" بالتأكيد أنت جائع "


نظر لقطعة الخبز ثم إليه وقال دون أن يمد يده إليها:" لا أملك مالاً"


-" ومن طلب إليك أن تدفع؟ "


-" و لم تعطيني إياها بالمجان؟ "


-"لأنك ضيفي "


نظر إليه برهة ثم أخذها منه شاكراً، وراح يتابعه بعينيه وهو يعمل، وقد بدأت تنمو في ذهنه أسئلة لا حصر لها، فما الذي يجعل شاباً دون العشرين يسكن وحيداً وفي غرفة كتلك ولم يتصرف معه بهذه الطيبة؟..



ومع تقدم ساعات الصباح بدأ عدد الزبائن يزداد، وبدا أن صاحبه قد شُغِلَ عنه لكثرة العمل. وقف عند الباب يتطلع إلى المارة بشرود وقد سافر عقله بعيداً إلى حيث والده وجدته، خيل إليه انه يرى جدته تبكي، وربما بكى والده أيضاً وحتى العروس قد تكون بكت لأنه افسد عليها عرسها وكل ذلك لم يجعله يفكر في التراجع والعودة.


لم تخفى عليه نظرات الفضول العالقة في عيون محمد وكلما مرت ساعات النهار كلما اتسعت علامات الاستغراب البادية على وجهه، لكنه لم ينطق بأي سؤال مداراة لمشاعره.


......................................................................................

انتظروا الجزء الأخير

هناك تعليقان (2):

  1. يعني الواحد يتمنى انه يروح يخبر ابوه انه بنام مع محمد، لكن في نفس الوقت يخاف من رجعته خلاص ابوه ما يخليه يطلع ..

    بس عندي ملاحظة.. وهي بخصوص اول لقاء بين احمد ومحمد، يعني على طول قاله ويش قصتك، يعني احس ان كان من المفروض يتكلم محمد مع احمد في تفاصيل ادق من انه كان يبحث فقط عن مسجد للصلاة فيه ..

    هذي ملاحظتي وارجوا ان تتقبليها

    بخصوص احمد هداه الله صحيح ان معاناتك النفسية صعبة لكن مو تترك اهلك دون اذن ..

    تعبيراتش دقيقة وجميلة خصوصا لما يستيقظ من النوم وهو في السوق ويحسب نفسه بالبيت كالعادة، ثم ان الشمس واشعتها وصعوبة ان يفتح عينه!

    بالانتظار

    تحياتي

    واحة خضراء

    ردحذف
  2. شكرا لمتابعتكم واحة
    يسرني ان استقبل آراءكم و ملاحظاتكم
    تحياتي

    ردحذف