6 يوليو 2011

أحمد .. قصتي الأخيرة -3-

الفصل الأخير ..



وها هو الليل قد أقبل، جلس محمد خلف طاولة المحاسبة قرب الباب و أخذ يعد ما جناه طيلة النهار وحين انتهى التفت نحو أحمد وسأل:" هل نصعد؟ "


كان سؤاله مبطناً أراد به أن يعرف ما إذا كان صاحبه ينوي البقاء أم أنه سيغادر، ورغم أن أحمد قد فطن إلى ذلك إلا أنه اكتفى بإيماءة موافقة، وعلى كل فهذا يعني أنه موافق على استقباله.


ناوله مفرشاً ووسادة و فرش لنفسه واحداً بجانب الدولاب وقال:" أرجو أن تكون غرفتي قد أعجبتك "


أسند أحمد وسادته إلى رجل المكتب وقال:" هل يمكن أن أسأل؟ "


ابتسم محمد وقال:" بشرط أن يكون سؤال بسؤال "


تبسم أحمد بدوره وقال:" لا بأس "


-" حسنٌ اسأل "


أدنى عليه دثاره وقال:" لم تعيش هنا وحدك ؟ "


عدل محمد من وضعية وسادته وأجاب وهو يسند رأسه إلى ذراعه:" أنا لا أعيش هنا، فقط في الصيف من أجل العمل"


-" يعني أنك أجير؟ "


-" ليس تماماً "


-" كيف ذلك ؟ "


-" الدكان ملك لعمي، وفي الصيف آتي أنا لأعمل فيه مقابل الاحتفاظ بما أجنيه، وفي الأشهر الباقية يستلم عمي الدكان "


-" يعني عمك يسكن في القرب "


-" أجل "


-" ولم لا تسكن معه؟ "


-" ليس لديه محل يؤويني، لحظة ألا تلاحظ أنك أسرفت في الأسئلة؟ "


هز كتفه:" لا هذا سؤال متفرع "


-" حسن دعك مني، وأجب على سؤالي هذا "


-" لحظة لدي سؤال أهم من كل الأسئلة "


-" ما هو ؟ "


-" ما الذي جعلك توافق على إيوائي ؟ "


تبسم ضاحكاً وقال:" الفضول "


ضيق عينيه مشككاً وقال:" أمتأكد أنت من أنه الفضول وحده ؟"


انقلب على ظهره وقال وهو يحدق بالجدار:" ربما لأنك تذكرني بإخوتي "


-" إذا لديك إخوة "


أدار وجهه نحوه وقال:" بلى ولكني لن أحدثك عنهم ولا عن أي شيء يخصني حتى تجيب على أسئلتي، لقد استدرجتني حتى جعلتني أفضي بأغلب ما لدي "


تبسم:" لا بأس اسأل "


وبحماس من كان ينظر شيء لوقت طويل تساءل محمد:" لماذا أنت هنا؟ "


تنهد ورد متهرباً:" قصة طويلة "


-" مستعد لسماعك حتى الصباح "


-" لم أنت مصر على معرفة ذلك؟ "


-" عندما خرجت من غرفتي صباحاً فوجئت بأحدهم ينام فوق الدرج، ولا أعرف لم خيل إلى أنه يمكن أن يكون ميتا! .. وذلك الشخص ظل برفقتي حتى الليل .. ولم يذكر شيء عن أهله أو منزله.. ألا يبدو هذا غريباً بل ومريباً أيضاً ؟؟ "


جذب أحمد نفساً قوياً وزفر قائلاً:" بلى من حقك أن تستغرب، سأخبرك "


سكت قليلاً وقال وقد هرب بعينيه بعيداً عن نظرات صاحبه:" في الواقع لقد هربت من البيت "


اتسعت عينا محمد وقال:" هربت! "


هز رأسه بالإيجاب ولم يعقب، فاعتدل محمد جالساً وقال:" ولم فعلت ذلك؟! "


-" لأن والدي قرر أن يتزوج ومن المفترض أن زفافه ليلة غد "


-" وهل هذا يدعو للهرب! "


-" أجل "


تطلع إليه مستغرباً:" وكيف ذلك؟! "


عدل أحمد من وضعيته وقال وقد اكتسب صوته نغمة حزينة:" لو كنت مكاني أما كنت لتفعل ذات شيء؟ "


-" لا "


-" لأنك لم تمر بما مررت به "


-" وكيف جزمت بذلك؟! "


تطلع إليه أحمد مهتماً وقد شهر أن الأمر خلاف ذلك فقال محمد:" أنا أعيش مع زوجة أبي وإخوتي، وبالمناسبة فكل إخوتي هم من والدي، أي أنه ليس لدي أشقاء "


علقت في عينيه نظرة مستغربة وقال:" أحقاً؟! "


-" أجل "


-" ألا تزعجك زوجة أبيك "


ضحك محمد بخفة وقال:" لا بل هي مثل أمي تماماً "


-" كيف تستطيع أن تقول ذلك؟! "


-" ولم لا أقول ذلك؟! "


-" كيف يمكن أن تجعل امرأة غريبة في مكان أمك ؟! "


-" إذا كانت هي مربيتي ألا تستحق أن تكون أما لي؟ "


-" كم كان عمرك حين تزوجها أبوك؟ "


-" توفيت أمي حين كنت في الثالثة من عمري وحين بلغت السادسة تزوج من جديد ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش برفقة زوجة أبي ورغم وفاة والدي إلا أنني ما زلت أعيش معها "


-" وكم عمرك الآن ؟"


-" سبعة عشر عاماً "


-" غريب! "


-" ليس غريباً يا عزيز، وأنت هل سبق لك أن التقيت بزوجة أبيك ؟ "


-" بلى مرة واحدة "


-" وما الذي جعلك تكرهها؟ "


-" لقد كرهتها قبل أن أراها "


-"ولماذا؟! "


-" قلت لك، لا أستطيع أن أراها تأخذ مكان أمي "


-" ولهذا هربت "


-" أجل "


ابتسم بتهكم وقال:" عجيب، لقد ذهبت بك أوهامك بعيداً فهربت من مشكلة إلى أخرى أكبر منها "


لم يرد أحمد فأردف محمد يقول:" قل لي، ماذا بعد الهرب؟ "


نظر إليه دون أن يجد ما يجيب به. فاستمر الآخر يقول:" حين هربت كنت تحت ضغط مشاعرك السلبية، المشاعر التي أعمت عينك عن كل شيء آخر، فصرت لا ترى إلى الهرب حلاً لمشكلتك "


كان أحمد يسمع بإنصات وقد راحت كلمات محمد تحرك شيء في داخله، فقال الأخير مواصلا:" سأسألك الآن وأجبني؟ "


-" ماذا؟ "


-" قل لي كيف هي علاقتك مع أبيك ؟"


التقط أحمد أنفاسه وقال:" كانت جيدة "


-" ماذا تعني بقولك كانت؟ "


-" يعني قبل أن يفكر أبي بالزواج كانت علاقتنا على ما يرام، بل كنا قريبين جداً لكنها تعكرت بعد ذلك وساءت جداً ليلة أمس "


-" وماذا حصل ليلة الأمس؟ "


-" تشاجرنا "


-"تعني أنك صرخت في وجهه؟ "


أطرق بنظراته وقال:" بلى "


-" وهل تظن أن هذا أمر جائز؟ كيف تصرخ في وجه أبيك؟ "


-" لم أكن أقصد لقد استفزني موقفه مني فأفلتت الكلمات مني دون قصد " "


سكت محمد لبرهة ثم علق قائلاً:" هواجسك هي مشكلتك "


تساءل أحمد متجاوباً:" كيف ذلك؟ "


-" عندما علمت بأمر زواج أبيك، تدفقت إلى عقلك أفكار كثيرة، وتخيلت صورة سيئة لزوجة أبيك وعز عليك أن تراها تستولي على مكانة أمك لديك، وحين لم تدفع تلك الأفكار فقد أخذت تستولي عليك حتى طمست عيناك عن رؤية أي إيجابية للأمر"


-" وهل لهذا الأمر أية إيجابية "


-" لقد أخبرتك قصتي، ليست كل زوجات الأب سيئات بعضهن يكون وجودهن رحمة من الله "


-" وما أدراني أنها ستكون كزوجة أبيك؟ "


-" وما أدراك أنها لن تكون كذلك؟ قلت لك هذا بسبب هواجسك، الهواجس التي جعلتك تتصرف بأنانية "


-" ولكن أين الأنانية في تصرفي؟ "


-" بهربك تكون قد أفسدت زفاف والدك، وهذا التصرف بحد ذاته أناني "


-"وماذا عن والدي وعن جدتي التي دفعته للزواج، أليس من الأنانية أن يفكرا بسعادتهما بمعزل عني؟ "


-"ألم يخبراك بالأمر من البداية؟ "


-" بلى "


-" إذا هما لم فكرا بمعزل عنك "


-" لكن رأيي لم يؤثر على قرارهما "


-" وهل تظن أنك ترى الأمور بصورة أفضل من والدك؟، اسمع يا أحمد أنا واثق من أن والدك حين اختار تلك الزوجة كنت أنت في أول أولوياته "


-" وكيف يكون هذا "


-" لا بد أنه حين قرر البحث عن زوجة مناسبة كان من ضمن شروطه أن تكون موافقة على رعايتك ولهذا فقد جعلك والدك تراها وجعلها تراك قبل أن يتم كل شيء، لا أظن أنك فكرت في هذه النقطة وإلا لما كنت قد هربت "


صمت أحمد يفكر في كلمات صاحبه الذي أردف يقول:" هل تعلم ما هي المشكلة الأساسية في الأمر؟ "


-" ما هي؟ "


-" أنك نظرت للأمر من جانب واحد، لقد أغفلت كل ما فعله أبوك من أجلك أغفلت سعيه لإسعادك ودأبه على رعايك طيلة تلك السنين و نسبت تفكيره بالزواج إلى الأنانية غافلاً عن أنك من وقع فيها "


وافقه أحمد إذ قال بصوت متأثر:" حقاً أنا لم أفكر جيداً، فحين سمعت بذلك جن جنوني ولم أعد أرى أمامي "


تبسم محمد بطيبة وقال وهو يربت على ذراعه:" ستعود للبيت غداً صباحاً "


التفت إليه وقال:"ترى كيف سيستقبلني أبي حين أعود "


-" لا تخف سيسعد لعودتك "


تنهد وقال بصوت منخفض:" حقاً إني نادم "


-" لقد صار كل شيء جلياً لك الآن وبت قادراً على اتخاذ قرارك الصحيح ولكن حاذر من الوقوع في ذات الخطأ مجدداً، كما قلت لك فكر ولا تترك لهواجسك فرصة للسيطرة عليك فالهواجس لا تحمل إلا الأوهام "

 


لم يستطع أحمد إطباق جفنيه وقد أخذ الندم يحفر عميقاً في داخله، وربما هوت من عينه دمعة ساخنة و ارتجفت أوصاله في شوق لمعانقة أبيه، نظر ممتناً ناحية محمد النائم قبالته، وشعر أن يداً من السماء وضعت هذا الشاب في طريقه وحمته من أن يضيع إلى الأبد.






في الصباح تناول إفطاره برفقة محمد الذي رافقه إلى الطريق التي جاء منها، وحين بلغا بداية حارته دون له محمد رقم المحل في كفه بقلم كان في جيب قميصه وطلب منه أن يتصل فور وصوله.


أرض المقبرة ولم ينس أن يلقي بالتحية على أمه وأن يعتذر عما تفوه من الكلام.


كان باب البيت موارباً كالعادة، أحس بالهواء النقي يعبر رئتيه رغم سخونة الجو واندفع للداخل بشوق، كان والده يجلس خلف الطاولة البيضاء التي تتوسط الفناء، والتعب والإرهاق باديان على وجهه، وقف على بعد أمتار قليلة منه وهتف بصوت متحشرج:" بابا "


حينها التفت الأب غير مصدق وهب واقفاً بقوة جعلت الكرسي يتأرجح قبل أن يهوي على الأرض، ركض أحمد نحوه وألقى بنفسه في أحضانه باكياً بينما خرجت الجدة من المطبخ على إثر تلك الجلب وهرولت نحو ابنها وولده لتعانقهما بمحبة بينما خرج صوت أحمد رقيقاً ما بين دموعه :" إني آسف "

                                                                 انتهـــــــــــتـــــ بعون من الله
خديجة طاهر – 4-5-2011 - الأربعاء

هناك 4 تعليقات:

  1. لديك أفكارٌ لمشاكلٍ اجتماعية، ولديك حلولٌ قد أحسنت تصويرها في القصة، فالإنسان الذي يبني ظنونه على أنها حقيقة قد يظلم نفسه قبل الآخرين، وقد أظلم أحمد نفسه، ولولا إذ كان اللقاء الإيجابي والمحموم مع محمد، لتاهت وضاعت حياته وسط دهاليز " ظنٌ " خاطئ .

    قبل أشهر رأيت كتيّب قصصك الإلكتروني بأحد المواقع الأدبية، وقد تفاجأت حينها به، وأخذت استذكر بعض قصصك التي كنتي قد كتبتيها الأعوام السابقة .

    شكراً لقلمك.. وبمناسبة ذكرى ميلادك كل عام وانتي بخير


    تحياتي

    واحة خضراء

    ردحذف
  2. شكرا لكم واحة
    يسرني جداً كونكم أحد قرائي المتابعين

    نسألكم الدعاء

    ردحذف
  3. فعلاً الهواجس هي أخطر مشاكل الإنسان حيث تتوطن في العقل أمور هي ليست من الواقع في شيء
    أخيتي لكِ قلم ذو فكر اجتماعي جميل ولغة سلسلة وكلمات مختارة بعناية كما أن وصفك المتقن جعلني أعيش فصول حكاياتك
    واصلي وموفقة بحق من تحبين..
    على فكرة أحببت تلك الدرجات والغرفة الصغيرة والدكان المزدحم حتى تمنيت أني هناك :)

    ردحذف
  4. أهلا عزيزتي ترانيم
    كنت أنتظر تعليقك فقد اعتدته
    شكرا لكِ

    ردحذف