( إلى الذين لم تنل منهم الأيام )

القصة الفائزة بالمركز الأول بمسابقة "أرميا" للقصة القصيرة
بإشراف الأديبة خولة القزويني والأستاذ فهد الهندال.
كلمة الأستاذة خولة القزويني .
قصة متكاملة الشروط ، تستوفي العناصر الفنية للقصة القصيرة ذات لغة متينة و أسلوب رصين يتسم بالنضج الفني وقد تناولت الكاتبة في فكرتها حكم الحياة ومبادئها فكان سردها شفافاً انسيابياً رائعاً قلم واعد ورؤيا إبداعية .
.............................................
أغمض إلياس عينيه الواسعتين، وقد هبت نسمة شتائية باردة بعثرت خصلات شعره الفاحم على جبهته، كادت برودة الماء تجمد أصابعه الصغيره وقد أدخل الإبريق في البركة التي تتوسط باحة الدار ليملأه حتى منتصفه، كان منظر شجرة الزيتون يثير شفقته، يبدو أنهم أهملوها منذ زمن بعيد، اتجه صوبها ليسكب تحتها ما معه من الماء، ثم مد يده لتلامس جذعها السميك، خالجه شعور بالشوق لبيتهم القديم إلى حيث جده وجدته، رغم أنه لم يمض على قدومهم إلى هنا سوى يوم واحد، تمنى لو أنه استطاع اصطحابهما معه فلطالما حدثته جدته عن أشجار الزيتون وذكرياتها الجميله ولطالما وعده جده بأن يزرعا معا شجرة زيتون عندما يعودون إلى أرضهم التي غصبهم إياها اليهود، تنفس الصعداء وأمسك بأحد أغصانها ليتسلقها، ترائت له خيالات أصدقائه، يبدو المنظر من هنا رائعاٌ، باحه المنزل تبدو أكبر مما هي عليه، ود لو أنهم جاؤوا معه، هنا يستطيعون أن يلعبوا بحرية، أن يتسلقوا أشجار المنزل العاليه وأن يتقاذفوا الكرة فيما بينهم دون أن يخشوا اندفاعها تحت إحدى السيارات.
مزق صوت والدته خيوط ذاكرته وتلاشت صور أحبائه من أمامه، التفت إليها من فوق الشجره، كانت تناديه وهي في طريقها إلى الباب، نزل مسرعاً نحوها: "ما الأمر ماما؟!" قالت وهي تشد وشاحها حول وجهها المستدير: "يبدو أنهم ضيوف." فتحت الباب مرحبة وقد أخذت الابتسامة طريقها إلى وجهها، ظهرت من خلف الباب امرأة في مقتبل العمر كانت تحمل طبقاً ساخنا في يدها، لمح ظلا من خلفها حاول أن يسترق النظر إليه لكنه فوجئ حين تنحت لتسمح له بالدخول، إنه ذلك الفتى المقعد الذي لمحه يوم أمس حين وصلوا إلى هنا، تبادلا نظرات أوحت بأنهما يعرفان بعضهما مسبقا، ابتسمت والدته وهي تتأمل وجه الفتى وقالت وهي تنظرإليه : "رائع، يبدو أنك حصلت على صديق جديد." ثم دفعته من الخلف بلطف: "هيا إلياس، رحب بضيفك ." ابتسم إلياس خجلاً، وسار إلى جانب ذلك الفتى نحو المصطبه بينما دخلت والدته برفقة ضيفتها إلى البيت، جلس إلى جانبه فوق أحد المقاعد التي كانت منصوبة هناك، شيء ما كان يدفعه لاختلاس النظر إليه، كان يشعر بالوقت يمضي بطيئا جداً، إلى متى سيبقيان صامتين لا يجرؤ أحدهما على النظر في وجه الآخر إلا خلسه؟. كان غارقاً في توتره عندما جاءه صوت ذلك الفتى هادئا: "نحن نسكن في البيت المجاور لكم، لقد رأيتك يوم أمس. التفت نحوه باسماً: أجل أنا رأيتك أيضاً."استرسل الآخر: "يبدو أنكم قد أتيتم من حي آخر، أهذا صحيح؟. - "أجل وصلنا الى هنا يوم أمس فقط ، حيكم يبدو هادئاً، حينا ضيق ويضج بالزحام." أردف بعد إطراقة قصيره : "صحيح لم تعرفني باسمك بعد!"ضحك الآخر حرجاً: "إسمي هو يحيى. بادله الابتسامه: وأنا إلياس."
نهض ليقطف ثمرة برتقال تدلت من فرع غض بعد أن بدأ الانبساط يتسرب إليه، قدمها له بابتسامة ودودة، أخذها يحيى مسترسلاً: "في أي صف أنت؟" نظر إليه مستغرباً: "هل تذهب إلى المدرسه؟!"، أحس يحيى بوخز مؤلم، حدق في صاحبه لبرهه ثم التفت في الاتجاه الآخر: في واقع الأمر لا، بل أدرس بشكل مستقل. التفت إلياس مستاءً: "أنا آسف". ابتسم متنهداً: " لا تهتم، لكنه لم يستطع تجاهل سؤاله الذي كان جارحاً بالنسبة له" ، فقد لمس فيه شيءً كبيراً من الدونية، بينما بدأت تتشكل لدى إلياس رغبة بتقديم المساعده لم يستطع فهم دوافعها، أهي الشعور بالعطف لوضع يحيى؟، أم هي الحكمة التي تربى عليها منذ صغره ( أن الناس لبعضهم )؟
لم يتمكن يحيى من النوم مساء تلك الليلة، جلس ساهماً يحدق في السماء من خلال نافذة غرفته وموقف اليوم يتكرر في مخيلته، كان وجه القمر يبدو مضيءً، وكأن سناه أراد أن يبعث في نفسه الحياة من جديد، دخلت والدته بهدوئها المعتاد، وبين يديها كوب دافئ من الحليب بالزعفران، قدمته إليه وقد آلمتها مسحة الحزن التي اصطبغ بها وجهه الصغير، قالت وهي تعبث بخصلات شعره الشقراء وتبعدها عن جبهته: " ألا تزال منزعجا؟" نظر إليها كمن يلتمس بصيص نور: " لست غاضباً، لكن ما حصل يؤلمني بالفعل أمي... "، حدقت فيه قليلاً أدركت أن عليها حسم الأمر سريعاً عليه أن يرضى بواقعه ويتعايش معه لقد بذلت كل جهدها كي لا يشعر بالتبدل الذي طرء على حياته منذ ذلك الحادث وقبل عامين بالتحديد، لكن عليها أن تزرع في داخله الثقة كي يتمكن من مواجهة من هم من حوله بصلابة، وضعت كفيها حول كفيه، ضغطتهما بلطف ليتسرب إليهما دفئ الكوب أكثر، قالت بلهجة واثقة: " يحيى، يا نور عيني أنصت إليّ قليلاً، أنت لا تعيش وحيداً في هذا العالم صحيح؟" هز رأسه بإيجاب فتابعت: " العالم مليء بالناس وهم مختلفون، لا يفكرون بطريقة واحدة، ولا ينظرون بعينٍ واحدة، أنت فقط تستطيع أن تحدد نظرتهم إليك، إن كنت قوياً أو ضعيفاً أن تشعرهم باختلافك أو لا تفعل" " استرسلت وهي تنظر في عينيه: " عزيزي، عليك أن تكسب إلياساً صديقاً لك، لا بد أنه ولد طيب، عليك ألا تشعره بعوزك، ألا تشعره من خلال تعاملك معه بأنك ضعيف، قد يحتاج الأمر بعض الوقت، ربما لأن إلياس لم يعتد التعامل مع أشخاص في مثل حالتك، لكن لابد أنه سيدرك أنك لا تختلف عنه يوماً ما."
استدركت: " طبعاً إن أردت أنت ذلك" ثم طبعت على جبينه قبلة حب دافئه وتركته يرتشف الحليب على مهل، وقد بدأ نور القمر يتسلل عبر النافذة أكثر.
(لا بد أنه سيدرك أنك لا تختلف عنه يوماً ما !) كانت تلك العبارة تموج في خاطر يحيى، لا تكاد تفارقه ما دام برفقة إلياس، بات لديه شبه يقين بأن ذلك سيحصل، سيأتي يومٌ يدرك فيه إلياس ذلك بطريقة ما، هو يجهلها في الوقت الحاضر. كلمات والدته جعلته يتقبل صداقة إلياس أكثر، إلياس الذي بدا منهمكاً في مد يد العون لرفيقه، فلم يكن يتوانى في مساعدته في أي أمر يحتاجه، حتى فيما يتعلق بالمدرسه، كان يساعده في مذاكرة دروسه، وقد ساعده على ذلك كونهما في المرحلة الدراسية ذاتها، لكنه لم يكن يألو جهدا كذلك في إشعار رفيقه بالنقص والاختلاف دون قصد منه لذلك ، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، حيث بدأ يتحدث عن رفاقه وصحبتهم الطويله، عن ذكريات طفولته الهانئه في ظل جديه والحي الحبيب، كانت تلك الأحاديث تخلق لدى يحيى شعوراً بالتمييز وكأنه مخلوق فضائي قد حط من كوكب آخر، ربما لأن وضعه يقوض لدى إلياس القدرة على الاستمتاع باللعب، فهو لم يعد يستطيع لعب الغميضه أو اللعب بالكرة كما في السابق.
رغم كل المطبات التي واجهها يحيى إلا أنه كان يدرك تماماً صدق كلمات والدته، فمفعولها فيه كمفعول السحر تماماً، إنه لا يستطيع التشكيك في أي كلمة تنبس بها، ذلك أن الأمهات صادقات دوماً وحدسهن لا يخطئ. في عصر أحد الأيام جاءه إلياس مسروراً و قد مزقت الغبطة وجهه تمزيقاً، نظر إليه مستعلماً: " على ما كل هذه الفرحه؟!" استدار في الهواء ثم قفز: " وأخيراً، لقد سمح لي والدي بزيارة صديقي الذي يقطن هنا" خيم عليه شعور بالكآبه، استدرك متسائلاً: " هل سيأخذك هو إليهم؟!، والدك مشغول بالعمل أغلب الأحيان...!" ابتسم كمن يوشك على النطق بشيء يستحق الفخر: " كلا بل سأذهب وحدي" تطلع إليه مستغربا: "وحدك؟!!، وهل تعرف الطريق ياعزيزي؟!" أجاب بثقة: " إنه لا يبعد من هنا كثيراً، لقد وصف لي الطريق." ابتسم نصف ابتسامة: " هكذا إذاً!، لا بأس... رافقتك السلامه." كانت تلك فرصة يحيى في التعرف على رفيق إلياس المهم ذاك، أراد أن يعرف طبيعة اولئك الأولاد الذين يفضلهم إلياس عليه، فخرج خلفه يتبعه حيث يذهب دون أن يشعر، ساعده على ذلك بطء حركة كرسيه المتحرك على اسفلت الشارع المتآكل، كانت الطريق هادئه الناس يذهبون ويجيؤون كلٌ في حال سبيله، حين انبعث صوت مريع على حين غره، انتبه يحيى فزعاً - اطلاق رصاص؟.....- بدأ الناس بالركض تلفت مذعوراً أين هو إلياس!! قطع الزقاق على عجل! توقف مشدوها، إنه يقف في بداية زقاق مسدود، يبدو أن الذعر قد جمد مفاصله فلم يعد يقوى على الحراك، اندفع نحوه بكل قوته، صرخ فيه بصوت مرتفع:" إلياس... تحرك ماذا دهاك!!" راح يدفع عجلات كرسيه بأقصى سرعة نحوه، صدمه بقوة، وتدحرج جسديهما بعنف ليرتطما بجدار الزقاق فيما انهالت رصاصات القناصة تخترق ألأرض والجدران بوحشيه، كان إلياس غارقاً في صدمته، وقد بدا له أن قلبه سيقفز من جوفه لشدةِ اضطرابه، فتح عينيه ببطء شديد بعدما هدأ اطلاق النار، نظر إلى وجه صاحبه ذاهلاً وقد أخفى الظلام الذي بدأ يلقي ظلاله شيء من ملامحه، همس بصوت مرتجف: "يحيى!!" ابتسم وهو يمسك بجبهته التي تمزقت بعض الشيء:" أنت بخير؟ حمداً لله على سلامتك." تهدج صوته قال بنبرة مخنوقة: " يحيى! مالذي أتى بك خلفي؟" ضحك بوهن: " حكمة الله يا عزيزي." ابتسم في إعياء ومد يده ليساعده على الجلوس، فيما كان يحيى غارقاً في تذكر كلمات والدته تلك.
بعد أن هدأ الوضع تماما لاح من بين الظلام خيالان لرجلين من الاسعاف، اقتربا من الولدين ليحملاهما إلى المشفى، فيما بقي كرسي يحيى المحطم دليلاً على أن الانسان روحٌ وإرادة.. لاجسد.
...........
خديجة طاهر
الجمعه
7:10 صباحاً
2009-7-25
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق