8 أبريل 2010

ظنوا أنهم قتلوه!

\ \
أعاد سماعة الهاتف إلى مكانها، نظر إلى ساعة يده، كانت تشير إلى الثامنة والنصف صباحا، لديه نصف ساعة حتى موعد اللقاء، كان مرتبكا يشوبه شيء من الحنين، أحكم إغلاق أزرار قميصه العلوية وسحب معطفه خارجاً، كان الجو باردا والخريف ما فتء يملأ الشوارع بأوراق كانت ذات يوم خضراء، تراءت له من بعيد معالم ذلك المكان، بدا متوجسا إنه لا يعرف شكل الشخص الذي سيقابله، لحسن حظه أن المقهى لم يكن مكتظا بالناس فهو كالعادة لا يرتاده إلا القليلون لذلك فهو يفضله، وقف قرب السياج المحيط بالطاولات الموزعة بشكل منظم في الباحة الخارجية، أدار نظرة فاحصة، خاطبه أحدهم كان يعمل نادلا هناك:"هل تنتظر أحدا يا سيد؟"
\
هز رأسه وهو لا يزال يتفحص الوجوه، قال النادل وهو يعدل من وضعية قبعته:"هل أستطيع المساعدة"
\
التفت إليه:" ليتك تفعل،أنا أبحث عن رجل لم يسبق لي أن التقيته! لكنه حسب ما وصف لي فهو يرتدي معطفا طويلاً وقبعة صوفية سوداء"
\
ضحك النادل عن غير قصد:" لكن أغلب مرتادي المقهى يحملون ذات المواصفات"
\
نظر إليه حرجا، قال وهو يبتعد قليلا:" لا بأس سأتدبر الأمر شكرا لك"
\
\
ولج إلى المقهى، كان المكان مكتظا بعض الشيء مقارنة بالخارج، روائح الدخان تزعج أنفه وتكاد تفسد عليه نقاء صباحه المهم هذا، استخرج محفظته، بحث بين الأوراق عن الرقم، وجده أخيرا سحبه وراح يضغط أزرار الهاتف المثبت هناك، انتبه إلى صوت هاتف يرن بالقرب منه التفت مهتما كان أحدهم قد أمسك بالهاتف لينظر إلى الرقم قطع الخط ليتأكد ، كان هو بالفعل تبسم ضاحكا واقترب من الرجل الذي كان لا يزال ينظر إلى شاشة هاتفه، مد يده مصافحا فرفع الرجل رأسه منتبها، نهض واقفا وصافحا باحترام، أخذته لحظة تأمل في وجه ذلك الرجل، كم الشبه شديد بينهما!، أشار له الرجل بالجلوس لكنه اقترح عليه أن يجلسا في الخارج فلم يمانع ، اختارا طاولة قريبة من احدى الأشجار المزهرة، جلسا، حين استقرا أخذ الرجل يسأله عن حاله، كان مأخوذا بمنظره، ربما شعر لوهلة أن من يجلس أمامه هو أمير وليس شقيقه الذي يلتقي للمرة الأولى، إنهما متشابهان تماما، في الملامح، الحركات وحتى أسلوب الكلام، إلا أنه يبدو أكبر قليلا، قاطعهما النادل بمجيئه، انه ذات النادل الذي التقاه قبل قليل قال وهو ينظر إلى الرجل المصاحب له:" وجدت ظالتك أخيرا يا سيد"
\
ابتسم بارتياح:" بلى" ثم التفت لصاحبه:" ماذا تود أن تشرب يا حسين؟"
\
نظر حسين إلى النادل قائلا:" كوبا من الشاي بالحليب "
\
التفت إلى النادل بدوره:" أحضر كوبين من فضلك"
\
ابتعد النادل تاركا لهما الحرية في التحدث، انحنى حسين ليتلقط حقيبة كانت معه، وضعها على الطاولة مستخرجا ملفا أزرق قدمه له، تناوله باهتمام:" أهذا هو الملف الذي أخبرتني عنه"
\
هز رأسه:" بلى"
\
فتحه متفحصا كانت الأوراق تبدو قديمة بعض الشيء، لفحته نسمة حنين لصاحبه، خطه الجميل لايزال مثار غبطته واستحسانه، أخذ نفسا يحاول به حبس عبرته، انتبه حسين لتعابير وجهه التي تغيرت فجأة، قال وهو ينظر في عينيه:" يبدو أنك وأمير كنتما على علاقة قوية"
\
ابتسم:" أجل، علاقتي بأمير كان استثنائية"
\
-" وما السبب؟"
\
هز كتفه وهو يتحول بعينيه إلى الرصيف المقابل حيت تكتظ أشجار أشتعلت بحمرة الخريف" لا أعلم ولكن أحيانا يكون للحظة الأولى تأثيرها، فالطريقة التي تتعرف فيها على الشخص قد ترسم لعلاقتك معه خطوطا مميزة"تسأءل حسين وهو يرتشف شايه:" وكيف كانت لحظتكما الأولى"ابتسم ببطء وهو يستذكر تلك الساعات:" كانت صعبة جدا، في مساء بدا أشد حمرة من الأصيل، كنت يومها في العاشرة من عمري، كان لي رفاق خرجت لألعب معهم في أحدى الأزقة كنا نتقاذف كرة بالكاد ترتفع عن الأرض لتهالكها، عندما تناهى إلينا صوت قصف من بعيد، ذلك الصوت المرعب الذي بدأ يعلو شيء فشيا، ليستحيل من رعد مفزغ إلى برق غاضب، الصوت الذي ملأ أذني حتى لم أعد أسمع شيء من حولى، ولم أنتبه إلى أني بت وحيدا في الزقاق بعد أن تفارر أقراني، كان منظر السماء كفيلا ليفقدني كل حواسي فكم هو مرعب أن يستحيل الليل إلى نهار فجأة"
\
استوقفه حسين وقد بان عليه الانشداد:" تعني انك قد بقيت واقفا تحت القصف"
\
-" بلى كانت تقترب رأيتها تتجه نحوي كأنها تراني، تستهدفني، انتابني شعور أن كل شيء قد انتهى كرتي تدحرجت من بين يدي كأنها هي الأخرى قررت الهرب، ولم يبقى سواي، لكن الرحمة الإلهية تدخلت فجأة لتنتشلني من مكاني، يد امتدت عبر الظلام المشتعل، لتجذبني بقوة وتطرحني إلى جانبها، وجدتني أبكي تفجر بركان الرعب في داخلي، كان الزقاق يحترق، رأيت النار ترتفع أمام عيني، صوته الهادء طمأنني كان الضوء كفيلا ليكشف لي معالم وجهه، ادركت من لباسه أنه صحفي، رأيت بقايا كامرته المحطمة يتدلى حول عنقه، كان في حال يرثى لها، قال لي مطمئننا:" لا تخف لقد نجوت" قلت بصوت تخللته حشرجات البكاء:" أريد العودة إلى منزلنا، أنا أريد أمي.. أريد أمي"ضمني شعرت من ضمته أن يحمل جراحات كثيرة، نهضنا واقفين، كنت أرتجف بشدة، وقلبي يرتطم بضلوعي بلا هوادة، أخذنا نركض عبر الأزقة قال وهو يمسكني من يدي وسحبني راكضا خلفه:" لن نستطيع الوصول إلى بيتكم علينا أن نبحث عن مكان آمن فلا بد أن أمك ليست في البيت هي الأخرى"قلت وأنا أجد في الركض:" أتعني أنني لن أراها؟!"-" كف عن طرح الأسئلة الآن"لا أذكر كم من الوقت ركضنا لكننا وصلنا أخيرا إلى أحد البيوت الشبه مدرة قررنا الاختباء هناك ريثما يهدأ القصف، لم يكن لدينا شك في أن يهدم البيت فوق رؤوسنا في أي لحظة لكن ذلك كان أفضل من البقاء تحت السماء مباشرة، لا أدري من أي جهة من البيت دخلناا لكننا وجدنا أنفسنا في غرفة نوم أو ربما كانت كذلك قبل قليل، ألقيت بنفسي على الأرض وأنفاسي تتلاحق، جلس أمير بجانبي لاهثا، هناك قضينا ليلتنا، بعد أن هدأ القصف قليلا قرر أمير أن يبحث عن شي من الطعام في ذلك المنزل تعلقت به خائفا لكنه طمأنني مجددا قال أنه لن يتأخر لكنه وبعد أن غاب خلف الركام لم يعد!.لم أره بعدها فوق كرسيه بعد أن أفاق من غيبوبته، ذهلت تقلص قلبي في موضعه، ركضت نحوه أعانقه، وأنا أبكي.."
\ صمت يمسح دمعة خاتلته، مد حسين يده مربتا على كفه، رفع عينيه منسحبا من ذكرياته:" لا زلت أشعر أنني السبب في كل ما حل به يا حسين لو لم أخرج في ذلك المساء لو أني لزمت البيت لو أنه لم يمر بذلك الزقاق..."قاطعه حسين بصوت يتماسك عنوة:" اهدء رضا الأمر ليس كذلك كل شي يجري حسب مشيئة الله وما حل به كان قدره"شد رضا نفسا متعثرا وراح يتصفح الأوراق التي بين يديه قال حسين:" أمير كان قد اتخذ طريقه منذ البداية وما فعله معك كان سيفعله من أي شخص غيرك، خطوط توجه كلها تختفي تحت طيات قلمه، يعد أن تعرض لذلك الحادث اتجه إلى الكتابة لأنه لم يعد قادرا على مواصلة عمله الصحفي، لكنه بقي مطاردا حتى وهو على كرسيه"استفهم رضا :" أتعني أنهم اغتالوه بسبب مقالاته"" بلى، مقالاته كانت خطرة بالنسبة لهم"-" أليس للصحفي حق في كشف الحقيقة؟!"-" هذا ليس سوى كلام يا صاحبي"
\
\ عندما عاد إلى منزله، استلقى على سريره فتح الملف مستخرجا حزمة الأوراق، انها قصة كتبها أمير قبل رحيله أي قبل عامين من الآن، تصفحها سريعا قبل أن يستغرق في قراءتها لفتته فقرة في احدى الصفحات كتب فيها : " حمقى هم الذين ظنو أن الكلمة صوت قد يبكمه الرصاص ربما لأنهم لم يدركوا أن الكلمة في موطني تنطقها الدماء".
\
\
\
AM12:19 الخميس 8-4-2010

هناك 6 تعليقات:

  1. ماشاءالله،،
    تعجز الكلمات عن وصف هذا البناء الادبي الرائع، فهو يملك الحبكة الدرامية الجميلة من جانب، بالاضافة الى التعابير الرنانة على الجانب الاخر.
    و ننتظر المزيد من كتاباتك.
    بالتوفيق،،

    ردحذف
  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    لا ادري في بادئ الأمر اعتقدت ان رضا كان يعد نفسه لمقابلة " عمل " .. كُل هذا التخيُل ونتائجه تغيّر عندما ذكرتِ كلمة " القصف " ..

    لأقف قليلاً على بعض وصوفاتك .. اشعر بانكِ تقرأين الإنسان جيداً بصورة واسعة بالاخص عند ربطه لربطة العنق، ثم ان الارتباك الواضح عليه لملاقاة شخصاً، وكانني شعرت ان هذا الارتباك هو ما يواجه اي شخص ذاهب لمقابلة عمل ..

    اشعر بانني ايضاً قرأت خاصيةّ فيكِ وهي انكِ لا تحبي الازدحام بل الهدوء وهو ما وصفتيه في رضا وعدم محبته للمكوث في داخل المقهى ..

    لنعد الى القصف والذي أخذني الى لبنان وفلسطين ! وقد شعرتُ انني اقرأ لكاتبٍ من هناك! لان الوصف ينبئ لشخص رأى ذلك ! خصوصا من شدة القصف بات رضا لا يسمع شيئاً لا شيء وهو وصفٌ جميل وحقيقي!

    حسين : تذكرني بمن يحمل عشرات الألبومات وعندما يفتح احدهم فان امطاراً من الدموع تتباكى على الذكرى .. الذكرى كـ ضياء للمستقبل !

    " امير " : عزيزي لا تخف هناك سنين ستأتي الكلمة فيها للفقير لـ أبناء هابيل !

    تحيـة للقاصة والكاتبة الأديبة خديجة طاهر

    ردحذف
  3. كنت انتظر هذه الزيارة منذ وقت طويل واحة،، فقد خيم على الأجواء الركود وكنت أصاب بالاحباط كلما بحثت عن تعليق لكم أو لمن اعتدت سماع أصواتهم هنا..

    شكرا لأنكم أوليتم القصة بعض الاهتمام
    بحاجة لتواجدكم دوما فهو ما يدفعنا للأمام..

    خديجة

    ردحذف
  4. معذرةً للتقصير، لكن لا تكتفي على ذلك ارجوا ان تصنعي جسراً يعبرُ بك بحار العالم

    لديك قلم - ارجوا ان تواصلي الكتابة - دون كلل حتى مع عدم وجود الرد، لكنني ساكون من قُراء همسك كما كنت وسنتابع، لاننا نعلم ان القراءة ثقافة ونلتهم هذه الثقافة من كل حدائق الحياة


    شكرا لك ..

    ردحذف
  5. ما شاء الله لا قوة الا بالله

    قصة مؤثرة جدا لكاتبة رائعة ... وفقك الله

    ظننت في البداية ان المقابلة بين أخوين ... ولكنها كانت أجمل

    ردحذف
  6. أهلا بكِ قطرة

    سررت بطلتك هذه

    ومتباركة بالشهر

    :)
    خديجة

    ردحذف