17 فبراير 2010

حور

"إلى من هم في محنة حور"
اقتربت منه بتؤدة، أمسكت بيده مستجدية انتباهه، رفع عينيه عن الكتاب، تبسم في وجهها مرحباً، وضع الكتاب جانباً أمسك بيديها:" ما بالها حلوتي..؟"ابتسمت أمسكت بضفيرتيها، انبرى قائلاً بعد أن أدرك مبتغاها:" جميــلة... أنت حلوة دائماً " انفرجت ابتسامتها أكثر، عانقت رقبته بقوة، فحملها إلى حجره، قبلها بحب، حانت منه التفاتة نحو النافذة نظر إلى السماء الزرقاء، ماجت في داخله خيالات شتى إنها بقايا الأيام السالفة، هي رائحة عائلة كانت موجودة ذات يوم. \ دخل أحمد مبدداً بنداآته الصمت الذي أطبق على الغرفة فجأة، قفز نحوها، أمسك بيديها قائلاً: "أتودين اللعب؟"..نظر إلى ابنته مشجعا:" حبيبتي إذهبي مع عمو".. قفزت لكنه استدرك قبل أن يخرجا من الباب:"انتبه إليها يا أحمد" أمسك بيدها بحرص، سارا حتى البقالة الصغيرة، ابتاع لها بالونا زهرياً كبيراً، ربطه في احدى ضفيرتيها، وأخذا يقفزان ويلهوان حتى بلغى الزقاق المؤدي إلى البيت، وقف قرب الباب غاضباً أمسك بكفها بقوة وصاح: "أنت مجدداً" ضحك الولد مستفزا: " أحمد، متى ستترك اللهو مع ابنة أخيك الصماء هذه!،أما سئمت اللعبة مع الفتيات" صاح غاضباً: " لا شأن لك أنت، لقد قلت للتو أنها ابنة أخي إذا لا تتدخل بينا، ثم إنها ليست فتاة صماء". التفت إلى وجه حور التي بدت منزعجة ووقد أفلتت يده تراجعت لتتوارى خلف الباب، اقترب منها غير آبه بضحكات الولد الساخرة، لكنه قبل أن يدخل صاح بصوت غاضب اللهجة: "سؤريك غدا في المدرسة يا جبان، سأعلمك كيف تسخر من الآخرين" فتح الباب ليدخلا دون أن يكترث لم أطلقه الفتى من عبارات ساخرة.
\ جلست على الكرسي منزعجة، تشيح بوجهها إلى النافذة، هي ليست صماء، لمَ يتهمها الجميع بذلك!، اقترب أحمد منها سحب كرسياً وجلس قبالتها، قال وهو يعبث بضفيرتها:" لا تحزني حور، إنه يتعمد إيذاءك فلا تهتمي، المهم هو الحقيقة"..نظرت إليه بصبر نافذ، أزاح الكرسي إلى الخلف، نهض مجفلاً وكأنه تذكر أمراً ما، سار نحو النافذة الأخرى وقف محدقاً بالزقاق الذي بدأ يغرق بالعتمة، داهمته صور مؤلمة، دوى صوت مرعب في اعماقه، لولا ذلك الحادث، لكان الجميع هنا ولما عقد لسان حور عن النطق، لكن هكذا جرت مشيئة الله، التفت إلى الخلف، تمادت الذكريات في مخيلته، والده، زوجة أخيه، وابنتاه، جود ونور، تنهد في حسره، عاد للنافذه كي لا تلحظ حور الوجع في عينيه فيتفاقم ألمها، تحشرجت أنفاسه، كان مساء كئيباً حين عاد وشقيقه محمد من نزهة قصيرة للبحر، ولكنهم لم يقصدا البيت بل المشفى ليجدو حور ممددة فوق سرير ابيض، تبكي بصمت بينما يرقد الباقون في ثلاجات الموتى، لقد أصابتها الصدمة بالبكم، وهي لازالت تعاني ذلك حتى بعد مرور العامين، شد نفساً متعثراً، فرك عينيه بقوة وصار يفكر بأمر حور، كيف سيساعدها، قلب الأفكار في رأسه، لا بد أن يخرج بفكرة نافعة، فجأة قفز نحوها أمسك بكفيها: " حور عمو أنت تريدين أن تتكلمي أليس كذلك؟" هزت رأسها وقد علقت في عينيها علامة استفهام كبيرة، استرسل بلهجة تفتعل المرح: "هل تعرفين الكتابة؟ هزت رأسها بما معناه "بعض الشيء" هي الآن في السادسة من عمرها لكنها لم تتقن كل الحروف كما ينبغى بعد، كلنه أردف بنبرة المرح ذاتها: "سأعلمك... ما رأيك..؟، إذا صرت بارعة في الكتابة فسنتطيع التحدث معا " تبسمت وقد راقت لها الفكرة همس: " ممتاز أحضري ورقة وقلماً وتعالي سأعلمك ذلك". كانت فكرة مجدية ومفيدة، فقد خلصت حور من جزء من ألألم الذي ألم بها فهي الآن قد غدت قادرة على الكلام وإن كان ذلك دون أن تصدر صوتا، بقيت لعامين آخرين حور ذات الصوت الغائب واللسان الطليق، كانت تكتب كل ما يخطر في بالها وإن تعسر عليها أمر ما تدخل والدها وعمها لمساعدتها، حتى جاء ذلك الصباح الذي غير حياتها ليعيد الأمور إلى نصابها.
\ كان صباحاً صحواً من صباحات ابريل المنعشة، حين استيقظت حور ويد والدها تستقر على رأسها، تبسمت له ببراءة، همس لها مذكراً : "ألا تريدين مرافقة عمو أحمد إلى المزرعة؟" هزت رأسها بإيجاب ونهظت من فورها، اليوم هو يوم عطلة سيذهب أحمد إلى المزرعة، مزرعة جدهم، بينما سيقى محمد في الحي مع والدته المريضة، ارتدت ملابس ملائمة، ساعدها في لملمة خصلات شعرها السوداء في حلقة إلى الخلف، وأخيراً وضعت قبعتها الزرقاء المفضلة وانطلقت برفقة أحمد إلى المزرعة التي لا تبعد عن الحي الكثير، كانت تمسك بيده طيلة الوقت، حتى وصلا المزرعة الكبيرة، و هناك حيث يجتمع أعمامه وأبناؤهم التقت حور بفتاتين في مثل سنها من أبناء عمومة والدها، مضت الساعات سعيدة، كانت حور منسجمة مع الوضع بشكل تام، لم تنتبه إلى أنها ابتعدت عن أحمد كثيراً. سرعان ما بدأ الظلام كانت الفتيات في جانب من المزرعة يتسلين بطابة وجدنها هناك، حين جاء دور حور للإمساك بها، لكن الطابة طارت خلفها وتدحرجت على الأرض العشبية، ركضت خلفها دون أن تننبه للشيء القادم من البعيد، لكنها وقفت فجأة حين لمحت شيء ضخماً عبر العتمة يرتفع فوقها، صرخت بأعلى صوتها:" توقــــــــف" وانحرف الخيال إلى اليمين متداركاً الأمر، وسقط بقوة عن ظهر الحصان، التفت إلى حور متفاجئا رغم الألم، رفعت عينيها إليه كان ذلك أحمد! أسرعت نحوها الفتان لمعاونتها على النهوض، اقترب منها أحمد، قال مضطرباً: " حور!!... لقد ... لقد تكلمتِ ! .. أجل تكلمتِ، قلت توقف! أليس كذلك..؟" هزها من كتفيها:" حور عمو تكلمي قولي شيء نادني أريد أن أتأكد من أنك نطقت حقاً، هيا.." نظرت إلى عينيه شدت نفسا متحشرجا وصاحت بصوت مرتجف: " عـ .. عمو... أحـ..مـــ..د".
\
خديحة طاهر 2:04 am الأربعاء، 17 شباط، 2010

هناك 3 تعليقات:

  1. رواية جميله

    مع تحياتى الحاره

    ردحذف
  2. عندما تحاربي اليأس وتجاهدي نفسك بأساً شديداً لأملٍ وهدفٍ لا انثناء عنه .. هو انتِ يا حور ..

    وما اجمل تفانيه في الصبر حتى نقطة الحسم ، احمد ! انت استاذٌ مثالي ..

    خديجـة لقد سرقتي وقتاً من حياتي في دهاليزٍ ممتعة قرأناها من خيالك

    بانتظار المزيد من القصص

    ردحذف
  3. تختارين الكلمات بعناية ... و كتاباتك بحق ما شاء الله رائعة ... تجعلني أعيش معها :)

    ردحذف